شفتانِ حلوتانِ كالرُّمَّان – دراسة للرقيم KTU 1.23

عمر حكمت الخولي

قبل أشهر، أعدت نشر ترجمتي للقسم الأخير من الرقيم KTU 1.23، والذي يُعرف باسم” الإلهان الطيِّبان والوسيمان”، وبيَّنت فيها أوجه التشابه بين هذا المقطع الختامي من النص، وبين قصة استقبال النبيِّ إبراهيم للملائكة في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين. إلا أن الأسرار التي يكشفها لنا هذا الرقيم لا تتوقَّف هنا، إذ ينقسم اللوح إلى 10 أقسام تبيِّنها لنا الخطوط التي تفصل بينها، ويبدو أنَّ الأقسام الأولى منه تمثِّل إرشادات طقسية للكهنة، إذ يبدأ بالدعاء وطلب “حضور” الإلهين الطيِّبين والوسيمين، قبل أن يرشدنا إلى هدف إقامة الطقس، وموقعه وكيفيَّة أدائه، وينتهي بالنص المركزي الذي سيتلوه المشاركون، وهو القسم العاشر والأخير من الرقيم، ويبدأ من السطر ما قبل الأخير من الوجه الأوَّل، ويمتد حتى نهاية الوجه الثاني.

يبدأ النص بعبارة “إِقْرَأْ إِلَيْمَ نَعِيمَيْمَ”، والتي تعني “نادِ/ادعُ/استقبل الإلهَينِ الطيِّبين”، أي “شحر=سحر” و”شالِم=سالم”، وهما الإلهان اللذان يحدِّثنا القسم الأخير من النص عن ولادتهما. إلا أن الرقيم مكسور في هذا الموضع – كما يتَّضح من الصورة أدناه – ما أدَّى إلى فقدان النصف الثاني من الأسطر الخمسة الأولى من الوجه الأوَّل (الأسطر السبعة الأخيرة من الوجه الثاني). ويمكننا ممَّا تبقَّى من عبارات في هذا القسم أن نتبيَّن بضعة أفكار، فهذان الإلهان الطيِّبان وسيمان أيضاً، وقد حظيا بالوقار في الأعالي وفي الصحراء والجبال. بعد ذلك يدعو النصُّ الإلهين إلى تناول الخبز وشرب الخمر، مقابل أن يضمنا سلام الملك والملكة، وسلام ضيوف المملكة وحراسها.

ينتقل القسم الثاني إلى معالجة ما يبدو كخطوات طقسية يجب على الممثِّلين اتِّباعها، إذ يجلس “الموت والشر” وفي يده “صولجان الثكالى والأرامل” (حرفياً: صولجان التثكُّل والترمُّل) تحت كرمة، ويبدأ بعصر عناقيدها لتقطر كالدماء على حقل الموت.

أما القسم الثالث، فهو سطر إرشادي واحد يوجِّه الكاهن إلى عدد المرات التي ينبغي فيها قراءة العبارة الأولى من القسم الرابع، والتي تقول: “الحقل حقل إيل، حقل أثيرة ورحمايا”. ثم يستكمل القسم الرابع الإرشادات الطقسية، إذ يتوجب على سبعة شبَّان إشعال النار ليُطبخ عليها “جديٌّ باللبن وعجلٌ بالسَّمْن”، قبل أن يوضع البخور على النار نفسها سبع مرات. لقد استوقفتْ هذه السطور عدداً من الباحثين الذي عكفوا على دراسة الرقم الأوغاريتية، إذ تمكَّنوا بفضلها من تفسير الآية التوراتية التي لطالما أثارت حيرة القارئين، “لا تَطْبُخْ جَدْيَاً بِلَبَنِ أُمِّهِ” (الخروج 23: 19)، والتي يبدو أنها جاءت كردٍّ مباشر على السطر الرابع عشر من هذا الرقيم: “اطبُخْ جدياً باللبن، وعجلاً بالسَّمْن”. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن النص الأوغاريتي يطلب طبخ “جد” وليس “جدي”، ما دفع بعض الباحثين إلى ترجمتها بأساليب مختلفة. شخصياً، أعتقد أن غياب الياء في الكلمة لا يعني شيئاً، فالرُّقم الأوغاريتية مليئة بالأخطاء “المطبعية”، مثل كتابة حرف مكان آخر مشابه، أو ترك حروف ونسيانها كلياً. وحتى إذا ما افترضنا أن المقصود بالسطر هو طبخ طفل (!) كما ذهب بعض المترجمين، أو طبخ “الكزبرة باللبن”، فإن هذا لا ينفي أن تكون الآية التوراتية الغريبة قد كُتبت رداً على هذا الطقس.

في القسم الخامس يعود النص إلى ذكر الإلهة “رحمايا” التي تذهب في رحلة صيد مرتدية لباسها الإلهي الذي يتزين بأوسم الشبَّان، على عكس لباس إلهة الحرب عناة الذي يفصِّله نص آخر، إذ تعلِّق عناة عليه رؤوس وأكُفَّ المحاربين القتلى. ينتهي هذا القسم بذكر المشاركين في الطقس (أو ضيوف المملكة)، لكن الرقيم مُشوَّه في هذا الموضع.

أمَّا القسمان السادس والسابع، فتصعب قراءتهما وترجمتهما نظراً إلى التشوُّه الكبير في الجزء الأوسط-الأيمن من الرقيم، لكن يمكننا قراءة بعض العبارات التي تذكر مسكن أو مجلس الآلهة (= مَثَبَتُ إليمَ: ربَّما المعبد حيث يُقام الطقس) وأسماء بعض الحجارة الكريمة مثل اللازورد (= إقْنِؤُ) والعقيق (= شِمْتُ).

يبدأ القسم الثامن باستجابة المشاركين للطلب الذي بدأ النص به، أي دعوة الإلهين الطيِّبين إلى الحضور بعد استكمال الشروط الطقسية. ونظراً إلى الحالة الجيدة نسبياً لهذا القسم، يمكننا تقديم ترجمة لغالبية سطوره فيما يلي:

[لقد] دعونا الإلهينِ الطيِّبينِ [النَّهمينِ ابنَي] يومٍ [واحدٍ]

[اللذينِ] يرضعانِ من حلمةِ ثدي [الإلهةِ] أثيرة […]

والشمسُ حاميةُ بوَّابتهما […] والأعناب. 

[من أجلِ] سلامِ الضيوفِ والحُرَّاسِ

والسائرين بذبائحِ الخير.

يعود القسم التاسع إلى ذكر موقع الحقل الذي يقام فيه الطقس الديني، فهو “حقلُ الآلهةِ، حقلُ أثيرة ورحمايا، حيثُ تجلسُ الآلهة”.

أما القسم العاشر والأخير، فهو أطول أقسام الرقيم وأبرزها وأكملها، ويبدو لي أنه النص المركزي الذي يتلوه الكاهن بعد استكمال الطقوس والتلاوات السابقة، وينقلنا فيه الراوي إلى عالم الألوهة البدئي قبل خلق العالم المادي، فنرى إيل يمشي على مياه البدء الأولى (تهوم)، قبل أن يرى امرأتين يبدأ معهما قصة خلق العالم:

[إيلُ] على حافَّةِ اليمِّ يسيرُ، على حافَّةِ تهامة (الهاوية)

[هناكَ يرى] امرأتينِ تعلوانِ إلى رأسِ المرجلِ 

هذهِ تهبطُ، وتلكَ تعلو

هذهِ تصيحُ: «أبي، أبي!»، وتلكَ تصيحُ: «أمِّي، أمِّي!»

يدُ إيل تطولُ كاليمِّ، يدُ إيل [تطولُ] كالموجِ

طالتْ يدُ إيل كاليمِّ، [طالتْ] يدُ إيل كالموجِ

إيلُ أخذَ المرأتينِ [اللتينِ] تعلوانِ إلى رأسِ المرجلِ

أخذهما ووضعهما في بيته.

إيلُ سحبَ عصاه، إيلُ مدَّها بيمينهِ

رفعَ يدَهُ ورأى في سمائهِ، في السماءِ رأى عصفوراً

فأمسكهُ ووضعهُ على الفحمِ تكريماً للمرأتينِ

صاحت المرأتانِ: «أيُّها الرجلُ، أيُّها الرجلُ!

اسحبْ عصاكَ ومُدَّ يدكَ!

فالعصفورُ احترقَ على النارِ

واصطلى على الفحمِ!»

المرأتانِ امرأتا إيل

امرأتا إيل إلى الأبد.

صاحت المرأتانِ: «يا أبي، يا أبي! اسحبْ عصاكَ ومُدَّ يدكَ!

فالعصفورُ احترقَ على النارِ

واصطلى على الفحم!»

البنتانِ ابنتا إيل

ابنتا إيل إلى الأبد.

صاحت المرأتان: «أيُّها الرجل، أيُّها الرجل! اسحبْ عصاكَ ومُدَّ يدكَ!

فالعصفورُ احترقَ على النارِ

واصطلى على الفحمِ!»

المرأتانِ امرأتا إيل

امرأتا إيل إلى الأبد.

ينحني [إيل] ويُقبِّل شفتيهما

[يُقبِّل] شفاههما الحلوةَ مثلَ الرمَّانِ

وبالقُبَلِ حبِلَت [الأولى]

وبالعناقِ حمَلَت [الثانيةُ]

فقرفصتا وولدتا “سحر” و”سالم”.

رسالةٌ إلى إيل تُحمَلُ: «امرأتا إيل ولدتا»

[يسأل إيل]: «ما ولدتا؟»

[يجيبه الرسول]: «ولدينِ؛ سحر وسالم»

[فيقول إيل]: «احملْ هديةً إلى الشمسِ العظيمةِ وإلى النجومِ الرواسي»

انحنى [إيل] وقبَّلَ شفتيهما

[قبَّلَ] شفاههما الحلوةَ مثلَ الرمَّانِ

وبالقُبَلِ حبِلَت [الأولى]

وبالعناقِ حمَلَت [الثانية]

فيجلسُ [إيل] ويعدُّ خمسةَ صُوَرٍ (؟)

ويغنِّي مجمعُ [الآلهة]: «كلتاهما قرفصتا وولدتا

ولدتا إلهينِ طيِّبينِ نهمينِ ابني يومٍ [واحدٍ]

يرضعانِ من حلمةِ الثدي».

رسالةٌ إلى إيل تُحمَلُ: «امرأتا إيل ولدتا»

[يسألُ إيل]: «ما ولدتا؟»

[يجيبه الرسول]: «إلهينِ طيِّبينِ ونهمينِ ابني يومٍ [واحدٍ]

يرضعانِ من حلمةِ الثدي

قد وضعا شفةً على الأرضِ، وشفةً في السماءِ

ليدخلُ في فيهما طيرُ السماءِ وسمكُ اليمِّ

يقفُ كلٌّ منهما أمامَ الآخرِ

واليمينُ والشمالُ في فيهما ولا يشبعان».

[ينادي إيل]: «يا امرأتيَّ اللتينِ تزوَّجتُ

يا ولديَّ اللذينِ أنجبتُ

احملوا هديةً إلى البرِّيةِ المقدَّسةِ

فثمَّ [سوف] تلجؤون إلى الأحجارِ والأشجارِ

لسبعِ سنينَ كاملةٍ، لثماني دوراتٍ من الزمن»

فمضى الإلهانِ الطيِّبانِ إلى الحقلِ

وشرعا يصيدانِ في البرِّيةِ حتَّى بلغا حارسَ الزرعِ.

فصاحا بهِ: «يا حارسَ الزرعِ، أيُّها الحارسُ! افتحْ [لنا] أيُّها الحارسُ!» 

ففتحَ لهما فتحةً ودخلا. 

[سألاه]: «[هل في بيتِكَ] خبزٌ فتهبنا ونأكلُ؟

هل في [بيتِكَ خمرٌ] فتهبنا ونشربُ؟»

فأجابهما حارسُ الزرع: «في البيتِ خبزٌ، ولديّ خمرٌ من […]»

ثمَّ أعدَّ لهما جرَّةَ خمرِه […] 

وصاحِبُهُ ملأَها خمراً […]